مقهى بسيط، يجلس رجلاً ستينياً، يبدو عليه الثراء، يرتدي معطفاً رمادياً وقميصاً بلون السماء الصافية، لحيته بيضاء مشذبه، وشعره خفيف، يدخن سيجارةً مع قدحاً من القهوة بتمعن، ناظراً خلف الزجاج لقطرات المطر السريعة.

ينتبه لصوت فتاة خلفه: صباح الخير.
يلتفت لها. شابة في أواخر العشرينيات، بملابس أقل كلفة منه، لها عينان واسعتان حولهما شعر كثيف بنياً وابتسامة هادئة. يقف ليحييها داعيها للجلوس، تجلس امامه وتضع الشمسية الى جوارها، تعدل من هيئتها، وتوجه له نظرةً من ينتظر الحديث.

العجوز: الطقس بارداَ جداَ بالخارج، اليس كذلك؟
الشابة ناظرة للمطر: نعم، الا ان كنت بداخل سياراتك الجيدة التدفئة.
يبستم العجوز مؤمناً على كلامها، يتقدم النادل لتطلب قهوة تركية غامقة سادة.
العجوز في استغراب: الست صغيرة على القهوة القوية، توقعت ان تشربي الحليب والكاكاو!
تبتسم الشابة: ومن صاحب هذه النظرية الحكيمة؟، على كلاٍ لا تخف نضجت بما فيه الكفاية لأشرب القهوة.

يشعل العجوز سيجارة شاعراً أن المعركة قد بدأت لتوها.
ينظر لها بهدوء: أريد أن أسمعكِ ماجدة، قولِ ما بداخلك، يا الله كم أحب اسمك!، أتعلمين لما سميتك ما…
تقاطعه الشابة: لا جئت أنا لأسمعك، أخبرتني أمي أنك تريد مقابلتي، لا اعلم لماذا انا بالذات، لبيت الدعوة بكل الاحوال.
العجوز: اريد ان اعلم ان كنتي حاقدة عليا بأي شكل من الأشكال؟
الشابة بثقة: لا مطلقا، ولما الحقد على عجوزٍ لا يملك من امره شيئا.
العجوز: أنا لست عجوزاً، ماجدة، انا والدك.
الشابة ساخرة: صحيح، لم أنسى ذلك، ولكن حقدي على الأب الشاب الذي تركني أنا وأختي وأمي، اما العجوز الوقور الذي أمامي فلا.

يضع النادل القهوة قاطعاً حديثهما وينصرف، ينظران خارج النافذة للمارة الراكضين من المطر.

العجوز: اسمعِ عزيزتي، أنا هنا حقاً لأتأكد من مسامحتك إياي، مؤكد إنك تبغضيني، ترينني كأب غير مسئول، مؤكد إنك تريدين أن تسأليني عن السنوات التي مضت.

ترشف الشابة من القهوة وتأخذ سيجارة من علبته الفضية وتشعلها.

الشابة: ارجوك لا تجبرني على فعل ذلك، لم يبقْ منك ما اجلده، فعلت بك الوحدة ودور المسنين الكثير.
العجوز بصوت أعلي: ولكني مصر، إني مستحقاً لعقاب كلماتك.

تنظر للخارج بوجه يظهر عليه الألم.

مبتسماً: لك نفس رسمة عيوني وعرض جبهتي، أول ما ولدتي لم أكن الى جوار والدتك، اتصلت بها واخبرتني انها انجبتك، وإنها لن تشتاق لي مادامت شبيهتي الى جوارها.
تقاطعه الشابة: أعلم، أعلم جيداً هذه القصة، روتها لي أمي مئات المرات كقصصً غيرها حتى لا أكرهك.
تنفث في عصبية: اسمع لعبة الذكريات تلك سخيفة، تذكرني وانا في المهد واذكرك انا في كل مرة احتجنا انا وامي لرجلاً يكون سندا لنا، هكذا علمونا، لابد ان يكون هناك ذكراً يحمي الحمى، يطعم أطفاله ويرعى زوجته، يصيح في أطفاله إذا أخطأوا، يكافئ من ينجح منهم بلعبة لطالما أرادها.
العجوز: أنا أسف.
الشابة: لا لست آسفاً، أسفك يكشف لي عن رجلاً مذعوراً من الموت وحيداً في بيتهِ الفخم، يخشى رائحة العفونة، وقلة مجيء المعزيين، مرتعباً من شماته شابتين يحملن اسمه، يسمعون بخبره ولا يعرفون أيبكون عليه ام من قسوته.
متأثرا يضع يده على يدها: ماجدة، ارجوكِ مادام بي نفس أريد أن نحل هذه المسألة، طريقة حوارنا سوف لن تفضي بنا الي شيء.
تسحب يدها من تحت يده، وتمسح دموعها بسرعه: ترى انها مسأله واراها أنا حياة.
بعصبية: لم اقصد ان أسميها…
تقاطعه: اختي الصغيرة لا تستطيع ان تتخيلك أشيب الرأس، اخر صور لك في المنزل كنت ثلاثينياً يافعاً، قالت صوريه لي حتى اعرف كيف أصبح.

يومئ رأسه في يأس.

من دون ان تنظر اليه: لما لم تحضر حفل تخرجي؟!
متأسفاً: تعلمين أنى كنت خارج البلد.
الشابة: نعم نسيت، السفر، اموال جيدة وبيت مميز، عائلة ورائك تنساها، تلقي لهم بالنذر اليسير حتى لا تتهم في قضية نفقة، بنيت للناس بيوتاً ولم تعمر بيتك قط.

يمسح عينيه فتنظر له بغير إشفاق.

العجوز: لم تكن هذه الحقيقة ابداً.
بحماس عصبي: اذن أخبرني، أخبرني عن القهر الذي جعلك تترك شابة وطفلتيها، بوظيفة متواضعة، أخبرني عن قهرك لامرأة عجوزً تطلب منك القليل لتعلم بها بناتك، أخبرني عن تلك الصغيرة التي بكت ليالي في الشباك تنتظر رجوعك، أخبرني عن اجتهادي في الدراسة لربما إذا علم ابي بنجاحي يعود لنا – تضع يدها على فمها باكية – هكذا كانت توصيني امي وتصبرني.
كاتماً أناته: انا اسف يا أبنتي، ارجوكِ سامحيني.
مستعيدة قوتها: وإذا سامحتك ماذا يفيدني انا!، أتغيب سنيناً طوال، لتعود لطلب شيئا يخصك ليريحك انت.
متحشرجاً بكلماتهِ: علمتني الحياة أن السماح يعطي القوة والراحة لمانحهُ.
ساخرة: علمتك الحياة!، لأخبرك قليلاً عن خبرتي انا بالحياة، علمت ان من يخطئ يجب ان يحاسب، ومن لم أستطيع على مواجهته سيأتي إلها عادلاً يقف بيننا.
العجوز: علهُ يخفف عني العذاب إذا غفرتِ لي انتِ.
الشابة: وامي واختي، أليس لهم نصيباً من الكرم الإلهي في محاسبتك!
العجوز: ان تجاوزتِ عني انتِ، تستطيعين شرح الموقف لهم علّهم يتفهمون.
ضاحكة: اي موقف يا سيدي!، انت لم تؤتي بسببٍ واحداً حتى وإن كان غير مقنعاً، تستحي ان تخبرني ان أنانيتك وبخلك وشهوتك هم من اثنوك عن دورك كرجل العائلة، لما تدفع اقساط المدرسة إن أمكن ان تغير موديل سيارتك.

يأتي النادل ويرفع الأقداح.

العجوز: اذن لن تسامحيني.
الشابة: السؤال ليس كذلك، ألن تحملِ عني وزري في آخر أيامي، ألن تكونِ غبية كفاية لتمرضيني بدلاً من الأغراب الطامعين بي.
تنظر له في تحدي: عش ما تبقى لك واحسب سبعة وعشرون عاماً هو عمري ما به من شهور وأيام وتعذب بهم ليجلدوك، لينتقموا منك، ليشمتوا على وحدتك وبرودة بيتك.
لا ينظر لها: إذن هذا قرارك النهائي؟!

تقف الشابة وترتدي معطفها، تهم بالحركة عن الطاولة لتقف لحظة: لا، اتعلم ماذا؟

تقترب منه وتلمس وجهه لأول مرة بحبٍ: لي ابناً لا اريد أرضعه الكراهية التي بصدري، لا يمكن ان أعيب عليك سوء أبوتك، واربي طفلي على أحقاد قديمة مسممة، ليس له ذنب سوي إنه حفيدك… أُسامحك لخاطره هو.
تقبله في رأسِه، لتغادر ويبقى نظره معلقاً عليها.